مجزرة مروعة وقعت وربما لم تأخذ حقها في ذاكرة شعبنا، مجزرة نسيها
وتناساها الكثيرون ممن حاولوا بكلماتهم وصف روعِ تلك الايام الغابرة، أيام
النكبة التي حلت بأهل بلدتنا العزيزة عيلبون
كما حلت على شعبنا الفلسطيني.
صباح الـ 30 من تشرين الاول عام 1948 والذي بدأ ككل صباح تسطع فيه شمس
الكون تحول ليوم احمر قانِ في ذاكرة كل فرد من ابناء قريتنا عيلبون.
فبالرغم من تناقل الكثيرين لأخبار اقتراب الجيش
الاسرائيلي من البلدة وما صاحبه من تخويف وترهيب وخاصة الأخبار عن مجازر
ارتكبها مختومة بقتله للعشرات من عشيرة مواسي جيران البلدة، صمد أهلنا
ورفضوا النزوح عن القرية وتحدوا قدرهم.
دخل الجيش الاسرائيلي البلدة فوجد أهلها
محتمين داخل الكنيسة رافعين الاعلام البيضاء. واقتاد الجنود بوحشية الجموع
خارج الكنيسة وقتلوا بدم بارد وفي وضح النهار 14 من خيرة شباب البلدة وطرد
الباقي شمالا الى لبنان. لم يكتف الجيش الاسرائيلي بما فعلت يداه داخل
القرية ليقتل شخصا آخر خلال مسيرة التهجير شمالا ليصبح عدد الشهداء 15
اضافة الى عشرات الجرحى الذين نجوا من الموت بأعجوبة.
لم يكن حظ عيلبون بمختلف عن باقي أخواتها من قرى المنطقة التي وقعت في
القسم اليهودي حسب خارطة التقسيم والتي انتكبت جميعاً خلال حملة التطهير
العرقي.
روت لي جدتي والدمع يملأ عينيها:
«... في ذلك اليوم الاسود تجمعنا داخل كنيسة القرية عندما علمنا بقدوم
الجيش الإسرائيلي ويداه ملطختان بالكثير من الدماء. دخل الجيش القرية فوصل
الكنيسة واجبر الجميع على الخروج والتجمع في ساحة «الحارة»، تلك الساحة
التي استعملت بشكل عام للأفراح حتى وطئتها قدم الجيش الاسرائيلي الهمجية
وجعلتها ساحة للشهداء الأبرار.
اختار الجندي الطبراوي «حاييم بطاطا» عشوائياً 12 شاباً من خيرة شباب
القرية بإشارة اصبع في حين كانت اليد الاخرى تمسك بالبندقية وتم اعدامهم
بمجموعات رمياَ بالرصاص دون تردد.
في هذه الأثناء اعتقل العشرات من رجال القرية ومن ضمنهم زوجي وسيق الباقي
من شيب وشباب ونساء واطفال امام الدبابات باتجاه قرية المغار. على مفرق
البلدة حاول اثنان من الشباب الهرب فرميوا ايضاَ بالرصاص واستشهدوا ليصل
عدد الشهداء الى 14 حتى هذه اللحظة.
مشت الجموع جوعى وعطشى مروراَ بقرية المغار وصولا الى مفرق كفرعنان، بالقرب
من مفرق فراضية، حيث قتل رجل آخر من أهالي القرية برصاص الجيش الاسرائيلي،
وجرح آخرون واعتقل أكثر من 40 رجلا إضافيا من رجال القرية. وكان قد نوى
الجيش الاسرائيلي قتل 50 رجلا آخرين، ولكن حال دون ذلك افتداء احد مواطني
البلدة واسمه ابراهيم حوا للرجال ب 100 ليرة فلسطينية.
مشيت حاملة طفلتي بنت الأربعين يوماً في حين امسكت بيدي الاخرى ولدي ابن
السنتين وورائي ابنتاي في الثالثة والخامسة من العمر تمسكان بطرف ثوبي.
ووصل بي الحال الى فقدان العزيمة حتى أنني فكرت بترك طفلتي بنت الاربعين
يوماً لأنقذ اولادي الثلاثة الآخرين. إلا أن حمل والدتي لطفلتي حال دون ذلك،
والتي بدورها كانت تجر امها المصابة فلم يكن لها الا استعمال اسنانها لحمل
ابنتي الطفلة من قماطها.
كانت اياماً صعبة حفرت ذكراها عميقاً، ذكرى الإذلال الذي لحق بنا حتى
اصبحنا نفتش عن قوتنا من نبات البيقيا في روث البقر ونشرب من المياه المعدة
للخنازير في قرية البريذعة.
رأيت بأم عيني نساءً من البلدة ولدن خلال تهجيرنا شمالا ولم يسعهن الا ان
يتركن مواليدهن تحت الشجر لانقاذ باقي اولادهن من الهلاك تحت جنازير
الدبابات الاسرائيلية التي كانت تطارد المهجرين باستمرار.
وصل من بقي حياً الى مخيم «مية مية» في لبنان ليفترش الارض مسكناً في خيام
من قماش ولتستقبلنا سماء تشرين الثاني مكفهرة بالامطار الغزيرة والبرد
القارس. استمر حالنا هكذا لمدة 70 يوماً لاقينا فيها جوعاً وعطشاً والسكن
في العراء حتى هلك بعض الاطفال ففضل بعض الاهل تسليم اولادهم للأديرة
والملاجئ وما زال العديد منهم هناك.
وصلت الى المخيم بشرى الإذن بالرجوع الى القرية لتنهر الجموع بالرجوع الى
البلدة. فعدنا الى ما كان بيوتنا لنجدها مفرغة من كل اثاث وثياب وحلال
ومؤونة كانت معدة لبرد شتاء فلسطين القارس بعد تعرضها للسلب والنهب...».
لكن بحبنا لبلدنا وبعزيمتنا الموحدة استطعنا إعمار قريتنا من جديد. وفي هذه
الذكرى نترحم على جميع شهدائنا الأبرار ونرفع أحلى الأمنيات الى من بقي من
احبائنا خارج الوطن آملين ان يعودوا الى قريتهم لينعموا بدفء ومحبة بلادهم
وطيب ترابها الغالي.
حنا
حوراني |